تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
image عفيف تكتب: وزير التربية الوطنية إذ يدوس على الدستور
A | A+ | A- |

عفيف تكتب: وزير التربية الوطنية إذ يدوس على الدستور

 

ثوري عفيف*

أثار تصريح وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، الداعي إلى توجيه الأسر نحو “المدرسة الرائدة” ولو كانت بعيدة، موجة واسعة من الجدل؛ ليس فقط بسبب لغته التي تضمنت توصيفات جارحة كـ“أساتذة مكفسين”، ولكن أساسا لأنه كشف عن فلسفة إصلاحية مقلقة، تنحو نحو تكريس التفاوتات بدل معالجتها.

ينص دستور المملكة بوضوح على أن التعليم حق مكفول للدولة، يقوم على الإنصاف وتكافؤ الفرص والجودة للجميع.

غير أن دعوة الوزير تفهم بأنها انسحاب للدولة من مسؤوليتها في ضمان مدرسة جيدة في كل حي وقرية، وتحويل جودة التعليم إلى رهان جغرافي وقدرة أسرية على التنقل.

إنها ليست مجرد زلة لسان، بل تحويل للدور الدستوري للدولة إلى منطق السوق: من استطاع أن يصل إلى المدرسة الأفضل، فليحصل على تعليم أفضل : تحويل المدرسة العمومية إلى خدمة متفاوتة الجودة حسب الحظ والموقع الجغرافي.

إنه الاعتراف غير المباشر بوجود “تعليم بسرعتين”؛ تصريح الوزير لم يكن معزولا عن السياق؛ فقد سبقه تصريح صادم لمسؤولة جهوية اعتبرت أن: "تلميذا واحدا في مدرسة الريادة يساوي 80 تلميذا في باقي المدارس."

هذا  تكريس صريح لوجود فوارق ممنهجة بين المؤسسات التعليمية.وهو ما جعل “المدرسة الرائدة” تظهر كما لو أنها استثناء مدلل داخل منظومة بأكملها، بدل أن تكون نموذجا للتعميم.

حين يصبح تعليم تلميذ ما “أفضل بثمانين مرة” من تعليم آخر، فهذا يعني أن ريادة المؤسسة ليست نتيجة لمجهود المتعلمين، ولا لخصوصية تربوية، بل لسياسات انتقائية حشدت الموارد في مكان واحد على حساب أماكن أخرى.

تصريح السيد الوزير يحمل الأستاذ مسؤولية اختلالات السياسة التعليمية، عبر الإيحاء بأن المدارس القريبة تضم أساتذة غير أكفاء"مكفسين". حتى لو كان القصد هو الحديث عن تفاوت في التجربة، فالصياغة كانت جارحة، لأنها تقلل من قيمة آلاف الأساتذة الذين يعملون في ظروف قاسية، وتضعهم في مواجهة المجتمع، وتغطي على المسؤول الحقيقي عن الفوارق: السياسة العمومية.

فلو كان الأستاذ هو أصل المشكل، لكانت النتائج متساوية بين مؤسسة وأخرى، لكن حين نجد فرقا شاسعا داخل نفس الجماعة أو نفس المديرية، فهذا يعني أن الخلل هيكلي.  وبالتالي، فإن استهداف الأستاذ هو أسلوب هروب للأمام أكثر مما هو تشخيص موضوعي.

تصريحات الوزير حملت رسائل عديدة منها أن المدرسة القريبة غير موثوقة، وأن جودة التعليم حق لمن يستطيع الوصول إليها, لا لمن يستحقها، وأن المؤسسة التعليمية فقدت وظيفتها في ضمان المساواة، وأن التفاوتات الرسمية أصبحت مبررة ومقبولة.

هذه الرسائل تضرب عمق الثقة في المدرسة العمومية، وتزيد نزيف الهجرة نحو الخصوصي، إذا استمرت هذه المقاربة، فإننا سنتجه نحو مدرسة عمومية فئوية، وفوارق تربوية ، وتلاميذ لا يملكون نفس الحظوظ، ونظرة مجتمعية مهزوزة تجاه الأستاذ والمدرسة.

إن الإصلاح الحقيقي لا يقوم على دعوة الأسر للبحث عن “جزر تعليمية” ناجحة، بل على جعل كل المدارس رائدة، وكل الأقسام مؤهلة، وكل التلاميذ متساوين في الحق والفرصة.

تصريحات الوزير لم تكن مجرد موقف عابر، بل كانت مرآة لسياسة تعليمية تركز الامتياز في مؤسسات محدودة، وتحمل الأستاذ مسؤولية اختلالات هيكلية، وتحول مبدأ تكافؤ الفرص من التزام دستوري إلى خطاب ثانوي قابل للتجاوز.

إن المدرسة العمومية اليوم لا تحتاج إلى تبريرات أو دعوات للهجرة المدرسية،بل تحتاج إلى إرادة سياسية تجعل التعليم حقا فعليا لا امتيازا، وتضمن لكل طفل مدرسة قوية، قريبة منه، لا بعيدة عنه.

 

*عضو المجموعة النيابية للعدالة والتنمية

 

/ تاريخ النشر 2025-12-01
آخر المستجدات

جريدة المجموعة