البردعي تكتب: قانون الصحافة الجديد… نكسة دستورية وتراجعات متعددة الأبعاد
من داخل قبة البرلمان، خلال اجتماع لجنة التعليم والثقافة والاتصال، حيث امتد تمرير التعديلات في جلسة ماراطونية حتى الثانية بعد منتصف الليل، حضرت مناقشة مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة.
ما شهدناه لم يكن نقاشا تقنيا، بل كان أشبه بـمحاولة تمرير مشروع يتنكر للدستور، ويتجاهل المكتسبات، ويتعامل مع حرية الصحافة كخطر يجب التحكم فيه لا كحق يجب صيانته. كان رد الوزير واحدا على كل التعديلات الجادة " تعديل غير مقبول "
لقد كان واضحا ، من خلال تفاصيل المشروع ومواقف الوزير الوصي، أن الهدف لم يكن إصلاحا حقيقيا بقدر ما كان تمهيدا للعودة إلى منطق التعيين والتوجيه والإقصاء.
فالتعيين بدل الانتخاب: وصاية مقنعة وأحد أبرز مظاهر الردة في هذا المشروع، هو الإصرار على فرض التعيين بدل الانتخاب داخل المجلس الوطني للصحافة، ضدا على مبدأ التمثيلية والاستقلالية.
والمؤسسة التي وجدت لتكون هيئة للتنظيم الذاتي، تحولت فجأة إلى مؤسسة يراد لها أن تخضع لتوجهات الحكومة، عبر تعيين "الحكماء" وممثلي الناشرين دون أي ضمانات للمهنية أو التعدد أو الاستقلال.
ما زاد من خطورة الوضع هو أن أجوبة الوزير خلال الاجتماع لم تكن في مستوى اللحظة، بل كانت باهتة، إدارية، ومفتقرة لأي نفس ديمقراطي. أكدت أن الوزير، الذي انتمى يوما إلى صفوف حركة نادت بالديمقراطية ، بالحرية والكرامة والعدالة، يتنصل من تاريخه السياسي، ويدافع عن منطق التحكم، في تناقض صارخ مع روح دستور 2011.
ان المشروع يخالف بوضوح الفصل 28 من الدستور، الذي يضمن حرية الصحافة ويمنع الرقابة القبلية. كما يتعارض مع الفصل 136 الذي يعلي من شأن الحكامة والاستقلالية في تدبير المؤسسات. كما أن التحكم في تركيبة المجلس الوطني للصحافة يعني في الجوهر التحكم في الخط التحريري للإعلام، مما يهدد بشكل مباشر حق المواطن في المعلومة وحق المجتمع في النقاش العمومي الحر.
الأخطر أيضا أن مشروع القانون جاء خالي من أي التزام بمقاربة النوع. فالمواد المنظمة لتركيبة المجلس تحيل دائماً على "الناشرين"، و"الحكماء"، بصيغة تذكيرية خالصة، دون أي تنصيص على ضرورة التمثيلية النسائية، وكأن الإعلام مهنة للرجال فقط!
وهذا خرق واضح للفصل 19 من الدستور، الذي يقر بالمساواة التامة بين المرأة والرجل، ويفرض على الدولة اتخاذ التدابير المناسبة لتفعيل المناصفة.
فكيف نقبل قانونا يقصي النساء ضمنا من مؤسسة وطنية دستورية؟ وكيف نتحدث عن إصلاح لا يُراعي نصف المجتمع؟
انقلاب على الحريات والحقوق .
كل هذه المؤشرات تدفعنا إلى الجزم بأننا أمام محاولة ناعمة للانقلاب على المكتسبات الديمقراطية، تحت غطاء "إصلاح" مزعوم. والنتيجة: تهميش الصحفيين، إقصاء النساء، تبخيس التنظيم الذاتي، وإعادة إنتاج منطق الوصاية والمؤسسات الخاضعة.
خلاصة:
لسنا ضد تنظيم المهنة، بل بالعكس، نحن أول من ينادي بإصلاح حقيقي يعزز المهنية ويحصن الحريات.
لكننا نرفض رفضا قاطعا أن يتحول التنظيم إلى غطاء للهيمنة، أو مدخل للتعيين، أو وسيلة لإقصاء النساء، أو أداة لخنق الأصوات الحرة.
المطلوب اليوم ليس مجرد تعديل صيغة قانون، بل استعادة روح الدستور، والوفاء لجوهر الحرية، وتجديد الالتزام بالمساواة والكرامة والتعدد.
وإلا فإن ما نشرعه اليوم، سيكون وصمة في جبين مؤسسة برلمانية من المفترض أن تكون حصن الديمقراطية… لا شاهد زور على الردة لدحض كل المكتسبات السابقة .